الحمل والطفل

اللاوعي اللاشعور



خلال أحقاب طويلة من الزمن ظل علم النفس التقليدي يجهل جهلاً مطبقاً مفهوم
اللاوعي ويحاول المرة تلو الأخرى نفيه ورفضه. فقد اعتبر الكلاسيكيون أن ظواهر النفس ما هي إلا ظواهر الوعي. وكانت هذه الرؤية الخاطئة للتماهي بينهما هي المنطلق أو المسلّمة الأولى المعتمدة في علم النفس التقليدي.

مع ذلك فإن بعض الظواهر النفسية الخاصة بالنوم والنسيان وبعض السلوكات
التلقائية قد لفتت نظر علماء النفس والفلاسفة منذ زمن بعيد. ولذلك كتب لوروي Le Roy أن الواقع الروحاني والنفساني لا يمكن أن ينحصر فقط ضمن منطقة التفكير الواضح أو الشعور الجلي… فما وراء ذلك يوجد ما اقترح تسميته منطقة ما دون الوعي infra-conscient حيث يقبع عالماً من الأفكار والمشاعر الغامضة التي تشتغل في الخفاء… وفوق المستوى الواعي يوجد مستوى داخلي آخر يمكن تسميته supra-conscient، إنه مستوى النشاط المبدع والحدس الخلاّق الذي يؤثر على النفس الداخلية برمتها.
رفض مفهوم اللاوعي
:
إن مفهوم اللاوعي النفسي كان يخطّ طريقه بصعوبة بالغة. فقد اعتبر أغلب
علماء النفس أن الحياة النفسية والوعي مترادفان، وأن مفهوم اللاوعي يناقض الحياة النفسية. فقد اعتبر هاملتون (1788-1856) أن الحياة النفسية والوعي متطابقان بالكامل وأن مفهوم اللاوعي ما هو إلا فرضية عبثية. ولذلك فقد كان يعتبر أن المعارف والرغبات والمشاعر لا يمكن معاينتها خارج مستوى الوعي.

إن البعض الآخر من الفلاسفة، من أمثال غوبلو، فقد اعترفوا بوجود اللاوعي،
لكنه يبقى لا وعي غير قابل للتحول إلى معرفة ، وهذا يعني أن اللاوعي غير موجود عملياً وليس له أية فعالية على الصعيد النفسي. وفي هذا الصدد يكتب غوبلو: إن اللاوعي لا يخضع لمراقبة الشخص نفسه من داخل، ولا هو خاضع لمراقبة شخص آخر من خارج. وبما أن اللاوعي غير قابل للملاحظة لا من داخل ولا من خارج، بالتالي يمكن اعتباره وكأنه غير موجود.

أما بالنسبة لسارتر فإن العواطف اللاوعية هي ضرب من الأوهام والأخطاء،
فالعواطف لا تنفصل عن الوعي الذي يحملها. فاللذة لا وجود لها من دون الوعي الذي يحملها. لذلك يستنتج سارتر أن مفهوم اللاوعي النفسي هو مفهوم متناقض إذ لا توجد إلا طريقة واحدة للوجود وهو أن أعي أنني موجود.
مناقشة النظريات الرافضة لوجود اللاوعي
:
إن رفض الظواهر النفسية اللاوعية يعني الإقرار بالطروحات التقليدية التي
تدعي أن الأمور النفسية هي بالضرورة واعية، أي تابعة لمستوى الوعي.ولكن إذا ما سلّمنا أن كل ما هو واع هو نفسي، أفلا يعني هذا أن كل ما هو من طبيعة نفسية هو تابع لمستوى الوعي؟

من السهل أن نباشر الحكم بالقول أن الأمر النفسي هو دائماً من طبيعة واعية، ولكن ما قيمة هذا القول إذا ما كذبته الأحداث والوقائع؟


إن رفض مفهوم اللاوعي النفسي يستند إلى الدليل الوجودي عند سارتر. لكن
سارتر نفسه في بعض المواضع من كتابه ” الوجود والعدم” ، يعود إلى التخفيف من غلواء رفضه للاوعي إذ يعترف أن ليس كل ما هو معاش يمكن أن يكون بالضرورة موضوعاً للوعي.

والواقع أن رفض مفهوم اللاوعي بالاستناد إلى عدم قدرتنا على ملاحظته ليس
بحجة قاطعة من الوجهة العلمية. فليس كل العلم خاضعاً للملاحظات المباشرة، بل إن الكثير من الاكتشافات العلمية قد حصلت عبر طرائق لا علاقة لها البتة بالملاحظة المباشرة.
الأدلة على وجود اللاوعي
:
في بدايات القرن العشرين تمت ملاحظة ظواهر نفسية عديدة لا يمكن تفسيرها إلا باللجوء إلى فرضية اللاوعي
.

من هذه الظواهر مثلاً ما يلاحظ على المريض بالشلل النفسي الذي يقول أنه لا
يستطيع تنفيذ بعض الحركات، لكنه ينفذها بصورة صحيحة عندما يكون في حالة من عدم الانتباه.

أما الظاهرة الأهم التي كشفت عن اللاوعي، فهي الدراسات الفرويدية
التي كانت مخصصة بالأصل لدراسة حالات الهسيتريا عبر التنويم المغناطيسي، والتي استطاعت أن تبيّن فيما بعد أهمية اللاوعي في الحياة النفسية. فالكثير من الظواهر من مثل زلات اللسان والأفعال الناقصة والنسيان والأحلام والكبت والعقد النفسية… أصبحت في أيامنا مفاهيم تابعة لمدرسة التحليل النفسي التي صادفت رواجاً كبيراً في أوساط علماء النفس والمثقفين.
أشكال اللاوعي
:
يتواجد اللاوعي عند الناس الأسوياء وعند المرضى كذلك. ولذلك يتم التمييز
بين شكلين من أشكال الظهورات اللاوعية: اللاوعي السوي واللاوعي المرضي:
-
مظاهر اللاوعي السوي
normal
1- على مستوى الميول : إذا ما رفضنا وجود اللاوعي فعلينا أن نرفض كذلك وجود الميل ونفترض أن كل أفعالنا إنما تتم نتيجة مشاريع واعية وحرّة. لكن مثل هذه الفرضية حسب بيرلو لا تعدو كونها ضرباً من الخيال أو الوهم الميتافيزيقي. ولذلك لا بدّ من الاقتناع بأن الميل ما هو إلا هذا النشاط الفطري الذي لا يعي نفسه، أي أنه بطبيعته نشاط لاواع.
2-
على مستوى النشاط الآلي = ( الانعكاس وردة الفعل ): إن ردة الفعل التي
تقوم بها الغدد أو الحركات التلقائية والانعكاسات على مستوى الحركة ليست مظاهر تابعة لمجال الوعي. على العكس من ذلك فإن الانعكاس الشرطي ما هو إلا غياب للوعي.
3-
على مستوى العادة : إذا كانت العادات تفترض تدخل الوعي والعقل
والإرادة في مرحلة تكوّنها واكتسابها، إلا أنها وبفعل التكرار سرعان ما تتحول إلى نشاط آلي وتلقائي يحصل بصورة لاواعية وغير إرادية.
4-
على مستوى العاطفة: إن كل حياتنا العاطفية مطبوعة بطابع اللاوعي
. فالحب من أول نظرة، أي الحب الفجائي الذي يشعر به الشخص، لا يمكن تفسيره إلا بالبواعث اللاواعية. ويعتبر مان دوبيران أو كل الحالات العاطفية الغامضة التي يعيشها الشخص والتي يجهل أسبابها، سواء كانت أحوال حزن أم فرح، هي أحوال تابعة لعاطفة أساسية متغيّرة ومتبدلة حسب المراحل العمرية للشخص.
وفي السياق نفسه يرى بودوان أن اللاوعي هو المجال الممتد وراء الوعي. إنه
المسافة الفاصلة ما بين الشرح السطحي لأفعالنا وبين معانيها الحقيقية.
ومن المنظور نفسه بيّن لاروشفوكو أثر اللاوعي في حياتنا الأخلاقية
والاجتماعية. إن حبنا لذاتنا لا ينكشف لنا غالباً، فالإنسان يظن أنه يتصرف بغيرية، في حين يكون مدفوعاً إلى تصرفاته بالأنانية اللاواعية.
5-
على مستوى الحياة العقلية : إن معظم الاكتشافات العلمية ترتبط بصورة
وثيقة بالحدوس وبالحلول الفجائية التي تتأتى من اللاوعي. كذلك فإن الإبداع الفني والإلهام والخيال الغريب من نوعه، لا يمكن تفسيرها إلا من خلال اللاوعي. ولذلك يقول “جيد” A Gide أن الإبداع الفني هو نتاج لعمليات تحضير طويلة يقوم بها اللاوعي.
ب- اللاوعي المرضي
Anormal:
بقيت محاولات تفسير اللاوعي المرضي محاولات غامضة وعقيمة قبل ظهور فرويد
. وبالفعل فإن فرويد هو الذي قدّم نظرية متكاملة في تفسير اللاوعي، الأمر الذي جعله بحق واحداً من أهم مؤسسي علم النفس الحديث.
1-
نظرية فرويد الأولى حول الجهاز النفسي
:
باشر فرويد تفسيراته حول طبيعة اللاوعي ومحتواه بأن ميّز في نظريته الأولى
بين مستويات مختلفة قابعة داخل الجهاز النفسي، منها الواعي ومنها اللاواعي. فالنفس الداخلية تتوزع ما بين المستوى الواعي والمستوى اللاواعي. وهذا المستوى الأخير هو الذي يلعب الدور التأسيسي في علم النفس.
وخلافاً لما جرىعليه علم النفس التقليدي
يقلّل فرويد من أهمية دور الوعي في تفسير الحياة النفسية. فالوعي بالنسبة لفرويد يعبّر عن الإدراك ويختص فقط بوصف علاقة الشخص بالواقع الراهن. أما اللاوعي فهو الذي يفسّر الحياة النفسية، وهو يتوزع حسب النظرية الفرويدية الأولى بين شكلين :
-
اللاوعي بالمعنى الوصفي للكلمة ويطلق عليه تسمية
préconscient
-
اللاوعي بالمعنى الحركي أو الدينامي
.
أما بالنسبة للشكل الأول الوصفي
préconscient فهو لا يثير أية إشكالات مرضية. إنه قريب جداً من اللاوعي السوي. إنه عبارة عن خزان تجتمع فيه مختلف المصادر الذهنية من تمثلات وصور وذكريات، تكون كلها مخبوءة بصورة لاواعية، لكنها يمكن أن تنقلب بسهولة تامة إلى مستوى الوعي عندما تتوفر لها بعض الشروط الخاصة أي حين تزول كل العوائق وكل فعاليات المقاومة.
أما اللاوعي الحركي والدينامي فهو الشكل المرضي للاوعي لأن التمثلات التي
تختزن في داخله تجد صعوبة كبرى في العودة إلى حيز الوعي، وذلك لأنها تمثلات مكبوتة. وهذا ما جعل فرويد يكتب : إن الأمر المكبوت يمثل نموذجاً للاوعي المرضي.


ولكن ما هو الكبت؟

الكبت هو عملية تحصل عند الشخص المريض حين يبعث الأنا بواحدة أو أكثر من
تمثلاته الذهنية إلى مستوى اللاوعي حيث تختزن هذه التمثلات وتكبت. فالكبت هو عبارة عن ردّة فعل غريزية وغير إرادية يقوم بها الأنا للدفاع عن نفسه. إنها إذاً آلية دفاع تواجه بعض الذكريات أو تتصدى لبعض الرغبات المقلقة التي يعتبرها الشخص ساقطة أو مهينة أخلاقياً، وهي في الأغلب رغبات متأتية من الشهوة الجنسية.

أما القوة أو الطاقة التي تمسك بالكبت وتمنع بالتالي التمثلات والرغبات
من الإنزلاق إلى حيّز الوعي، فإن فرويد يطلق عليها تسمية المقاومة.. إنه يسميها على هذا النحو كونها تعوّق العمل العلاجي وتشكل ردة فعل دفاعية للمريض. فالمريض يحاول أن يمنع المعالج = ( المحلل النفسي) من الوصول إلى المناطق الحميمة والعميقة في اللاوعي. أما النتيجة الضرورية المرافقة لهذا الكبت فهي ظهور الاضطرابات والعقد والأمراض النفسية . والملاحظ أن هذه الأمراض والعقد تستمر مع الشخص ما دام لا يستطيع أن يعي أسباب مرضه.
2-
نظرية فرويد الثانية حول الجهاز النفسي
:
في كتابه ” خمسة دروس عن التحليل النفسي” ينتقل فرويد إلى نظريته الثانية
حيث يعطي وصفاً جديداً للحياة النفسية. وفي هذه النظرية يبيّن فرويد أن شخصية الإنسان تتكون من ثلاث مستويات أو طبقات: الهو ، الأنا، ثم الأنا الأعلى.
المستوى الأول ، أي الهو ، يعبر عن مجموع الغرائز والشهوات أو القوى
الجسمانية والعوامل الوراثية المولودة مع الشخص. إنه يعبر إذاً عن كل القوى الطبيعية والجسمانية غير الإرادية وغير الواعية والتي تتحكم بمختلف جوانب الحياة النفسية.
وكلما نضج الشخص أو تقدّم في العمر يتأثر جهازه العصبي بالعالم الخارجي،
وينفصل جزءاً من الهو ويصبح عبارة عن وسيط بين الشخص وبين العالم الخارجي، ويطلق عليه فرويد تسمية الأنا.
أما الأنا الأعلى فهو يتشكل من مجموع الإلزامات والضغوطات والممنوعات التي
تفرض على الشخص من قبل العائلة أولاً ثم من قبل المجتمع ثانياً . إنها إذاً ضغوطات وإلزامات يكتسبها الشخص في مرحلة الطفولة بصورة خاصة.
وبالنسبة لفرويد ، فإن السلوك السوي والعادي هو السلوك الذي يوازن فيه
الأنا ما بين مطالب الهو الشهوانية وإلزامات الأنا الأعلى القيمية. والجدير ذكره أن عملية التوازن هذه هي مصالحة في غاية الصعوبة أو أنها شبه مستحيلة، وذلك لأن مطالب الشهوة تتعارض بالكلية مع إلزامات الأخلاق.
ويظهر الصراع الذي يواجهه الأنا في مرحلة أولى ، على شكل أفعال ناقصة وزلات
لسان ومحاولات ترقية ورفع للجانب الشهواني، ثم في مراحل لاحقة يتحول الصراع من صعوبات عابرة إلى حالة مرضية تتمظهر على شكل عقد نفسية وعصابات وهستيريا. ومن هذا المنطلق فإن الكبت هو عبارة عن حل يقوم به الأنا الذي لا يمكنه أن يبقى باستمرار مسرحاً للصراع.
ويؤكد فرويد أن الذكريات المرضية هي في غالبيتها مرتبطة بصورة وثيقة
بالحياة الجنسية وبتطورها . فالحياة النفسية والعواطف تتطور بتطور وتغير أشكال الحياة الجنسية المتواجدة عند الإنسان منذ طفولته الأولى. ويبين فرويد أن النمو العاطفي عند الولد يمرّ بثلاثة مراحل قبل أن يصل إلى مرحلة النضج والبلوغ.
في المرحلة الأولى تتركز الشهوانية والعاطفة حول الفم وتكون لذة الطفل الرضيع في الارتضاع أو مص الأصبع
.
وفي المرحلة الثانية تتركز العاطفة عند الطفل في ظاهرتين : الأولى هي
العدوانية التي تدفعه إلى تمزيق الأشياء وكسرها وإتلافها. والثانية هي اهتمام الطفل بأعضائه الجنسية وميله إلى التعري والتبول والبراز.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الشهوانية الجنسية التي تنتقل بالولد إلى حالة البلوغ بعد سلسلة من التحولات الجسدية والنفسية
.
وقبل هذه المرحلة الثالثة والأخيرة يمر الولد بمرحلة يسميها فرويد مرحلة
الكمون، وهي مرحلة حساسة لأن الولد يشعر فيها بالخجل وبالاحتقار وبالقرف من النظم التربوية والعائلية .
إن مختلف التفاصيل المرافقة لهذا التقسيم العاطفي والشهواني قد أسهمت في
توصل فرويد إلى الإتيان بتفسير جديد يتحكم بالحياة النفسية، إنه عقدة أوديب. فإذا كانت الحياة الجنسية libido عند فرويد ملازمة لحياة الإنسان منذ الولادة، فإن المرحلة الأوديبية = (سن 4 سنوات) التي يتعلق فيها الصبي بأمه (Fixation) ويتماهى بأبيه (identification ) ويرغب في إزاحته وموته ليحل محله، هي رمز لطفولة كل واحد منا. ولذلك يعتبر فرويد أن الطفولة هي الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان الراشد .


طريقة التحليل النفسي :


أ- البدايات
:
إذا تجاوزنا المفاهيم والأساليب العامية في معالجة الأمراض النفسية ، نجد
أنفسنا في القرن التاسع عشر أمام محاولات جدية لفهم حقيقة هذه الأمراض ومعالجتها بطرق علمية . فكانت حالة الهستيريا المرضية الموضوع الذي اهتم به الطبيبان الفرنسيان “شاركو” و”برنهايم”.
كان “شاركو” يرد الظواهر الهستيرية إلى حالة إيحاء ذاتي ناتج عن أفكار لا
واهية. فكان لا بد إذاً من معالجة هذا الإيحاء الذاتي بإيحاء علاجي يقوم به الطبيب معتمداً على سلطته عبر التنويم المغناطيسي ، فكانت النتائج تبدو أحياناً مدهشة لكنها تبقى مؤقتة.
أما فرويد الذي أسس منهج التحليل النفسي
ونظرياته، فقد تتلمذ في فرنسا على مشاهير الأطباء النفسيين أمثالف “شاركو” و”برنهايم”، وشارك في جلسات التنويم المغناطيسي المطبقة آنذاك.
وكان أبرز نقاط تحوله إلى منهجه في التحليل النفسي حالة مرضية اشترك مع
بروير” في معالجتها : صبية أصيبت بعوارض هستيرية على أثر وفاة والدها : تشنجات في عضلات عينيها.
أخضعت للتنويم المغناطيسي فانكشفت أمور هامة: كانت الفتاة تهتم بوالدها
المحتضر والتي كانت تحبه كثيراً . فكانت تحتبس دموعها بتقليص جفنيها بقوة لكي لا يتاثر والدها، وبعد خضوعها للتنويم المغناطيسي زالت جميع العوارض الهستيرية التي كانت تشكو منها، ولذلك استخلص فرويد أن انكشاف الحالة اللاواعية، سبب المرض النفسي، وظهورها على مسرح الوعي يؤدي رأساً إلى الشفاء، وهذا ما يسمى بالطريقة التطهيرية ، أو تنقية اللاوعي la méthode cathartique.
ب- منهج التحليل النفسي
:
يتساوى غرض منهج التحليل النفسي عند “فرويد” مع منهج التطهير
(Catharsis) القائم على إرجاع فكرة لاواعية مسببة لاضطرابات نفسية إلى منطقة الوعي.
وقد فضّل “فرويد” منهج
التحليل النفسي على منهج التنويم المغناطيسي الذي كان متبعاً من قبل لأن هذا المنهج الأخير يسحق شخصية المريض أمام شخصية طبيبه فضلاً عن أن نتائجه مؤقتة.
والمعالجة بالتحليل النفسي طويلة: فهي تتطلب عدة جلسات أسبوعية يُدعى
المريض للاستلقاء براحة تامة على أريكة والمبادرة بالكلام بحرية كاملة من دون إهمال أي شيء يرد على خاطره.
ويكون الطبيب في غاية الانتباه يسجل ما يسمعه ملتفتاً إلى كلمات تبدو مهمة
للغوص في نفسية مريضه؛ فيدعوه إلى الانطلاق منها في عملية التداعي الحر حيث يمكن أن تنزلق في المسار الآلي لعملية التداعي فكرة أو مشكلة لاواعية فتبرز إلى مجال الوعي.
وقد يتوقف المريض فجأة في مسيرة التداعي كأن قوة باطنة تقطع الطريق على
مواضيع لاواعية وتمنعها من الظهور على مسرح الوعي. وتستوجب حكمة الطبيب من أجل التغلب على هذه العوائق وإطلاق عملية التداعي من جديد في اتجاه المواضيع التي يحاول المريض تحاشيها، واكتشاف المعاني الحساسة التي تتمحور حولها مقاومته، فيقوم الطبيب بتحليل ما يظهر عند مريضه من زلات لسان وأفعال تائهة (actes manqués) .
وقد اهتم ” فرويد” اهتماماً بالغاً بظاهرة زلات اللسان وذكر عدداً منها في كتبه
.
-
رئيس مجلس يقع في زلة لسان عندما يعلن اختتام الجلسة في لحظة
افتتاحها، لقد كان بين الحضور خصوم ألداء، فعبّر رئيس المجلس عن موقفه السلبي اللاواعي من هذا الحضور.
-
كذلك بالنسبة للأفعال الناقصة والنسيان ، إذ إنها ترتد أحياناً إلى
اللاوعي؛ فإن نسيان موعد ليس دائماً فعلاً بريئاً وغير مقصود، بل قد يخفي وراءه عدوانية.
-
أخيراً ، تجدر الإشارة إلى أن الشهرة التي اكتسبتها عملية تفسير
المعاني ضمن منظومة التحليل النفسي ترتد إلى اعتماد فرويد ، أغلب الأحيان، على تحليل الأحلام وما تحمله من دلالات معبّرة عن اللاوعي .
تحليل الأحلام
:
إن تحليل أحلام النوم عند المرضى النفسيين هو ” المدخل العريض إلى سبر غور
اللاوعي” حسب تعبير ” فرويد”. وكانت الأحلام خاضعة قبل ” فرويد” أما لتفسير ما ورائي وإما إلى أصول فيزيولوجية . لكن وجه الابتكار عند ” فرويد” أنه تجاوز هذين الحلين وأعطى للأحلام تفسيراً نفسياً فردّها إلى جذور الحياة النفسية اللاواعية السوية وغير السوية فصارت الأحلام تعبّر عن ذات الشخص وعن رغباته. الحلم إذاً ذو معنى إنساني وشخصي. وأولى هذه الرغبات رغبة النوم؛ فالحلم هو حارس عملية النوم. فعندما أحلم أنني عطشان وأنني أشرب فإن ذلك يساعدني على الاستمرار في النوم إلى أن أستيقظ وأشرب بالفعل.
ويذكر العالم ” فرينك” أن إحدى مريضاته ذكرت له أنها رأت في المنام أنها
اشترت من مخزن فخم قبعة جميلة سوداء غالية الثمن. أدى تحليل هذا الحلم إلى أن زوج هذه المرأة مريض طاعن في السن وبخيل، وأنها واقعة في حب شاب جميل وغني. فكان الحلم تعبيراً عن مجموعة رغبات أخرجها اللاوعي بطريقة رمزية. فإن القبعة الجميلة تعني رغبتها في إغراء عشيقها، والثمن الباهظ يعني رغبتها في المال، أما القبعة السوداء فهي رمز حداد ورغبة في التخلص من زوجها المريض. هكذا اجتمع في القبعة معقد رغبات ومعان.
تقويم منهج التحليل النفسي:
إنه منهج ثوري لقي ردات فعل، لكنه أكد فعاليته فصحح وأكمل كثيراً من
المفاهيم النفسية. لكن الخطأ هو في تحويل هذا المنهج إلى نظرية تدّعي تفسير جميع مظاهر الثقافة الإنسانية وجميع حقائق السلوك وقيمه.
لحقت بنظرية التحليل النفسي تهمة المادية لجهة أنها ردّت عالم القيم كله
إلى عقد نفسية مرتبطة بالغرائز المكبوتة وخصوصاً الجنسية؛ وهذا معنى ما قاله ” كونت” من أن ” المادية هي منهج يفسر الأعلى بما هو أدنى” . فقد يكون هذا النوع من التفسير يناسب أشخاصاً في أزمان ظروف خاصة بهم، لكنه لا يستوعب الحقيقة الفنية والعلمية والدينية للنفس الإنسانية، ولا يتفهم التسامي الأخلاقي والديني الأصيل.
كما أن تفسير القاعدة المادية للسلوك يشكو من تجاهل لعناصر كثيرة تؤثر في
الشخصية كالعناصر الاجتماعية العامة والعرقية والتاريخية والثقافية؛ فهذه عناصر أهملها “فرويد” لحساب تفسير السلوك كله بالغريزة الجنسية. ففي منهج التحليل النفسي تقصير في تفسير الحقيقة الإنسانية في جوانبها المادية وفي جوانبها الروحية: فإذا صح هذا المنهج لمعالجة الحالات المرضية فلن يكون نظرية كافية لشرح الشخصية ولفهم الإنسان.
 
Top